} العلامة الثانية : التماس العلم عند الأصاغر {
/ - عن أبي أمية الجمحي t قال : قال رسول الله r : } إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُلتمَسْ الْعِلْمُ عندَ الأصاغِرْ { ([1])
هذه العلامة أقحمتها هنا لعلاقتها بالعلامة السابقة ، وقد يتصور البعض أنها تدخل في مضمون علامة قبض العلم السابقة ، و الصواب أنها علامة مستقلة ، وإن كان
لها نوع تعلق بقبض العلم ؛ إذ هي معززة لقبضه .
والأصاغر هنا جمع أصغر ، ويراد به سفلة القوم وجهالهم ، وليس المراد بها صغار السن .
والمراد بهذه العلامة أن يقصد الناس من تزيا بزي العلم وإن كان من غير أهله إما لجهل أو لفسق ونحوه (_ ) ، بينما يزهد الناس في التماس العلم من أهله ممن يصدق في وصفهم بالأكابر في هذا الشأن .
وهذه العلامة تدل على عدة أمور منها فساد حال الناس واختلال موازينهم في الحكم على فلان أنه عالم ، أو دعي علم .
و منها فساد توجهات الناس وزهدهم في العلم الحقيقي ؛ لذا يعمدون إلى من يجاريهم ، ومن يدغدغ عواطفهم ، ومن يغرقهم في الأوهام والخيال ، لا من يرشدهم سبيل النجاة .
وهذه العلامة ظهرت بعد الخلافة الراشدة ، وزادت ذروتها في العهد العباسي ، و هي بازدياد إلى عصرنا الحاضر التي بلغت به ذروتها .
يقول الدكتور محمد عجاج الخطيب عن القصاصين وعلاقتهم بظاهرة وضع الحديث : » ظهرت حلقات القصاصين والوعاظ في أواخر عهد الخلافة الراشدة .. وكان بعض القصاص لا يهمه إلا أن يجتمع الناس عليه ، فيضع لهم ما يرضيهم من الأحاديث التي تستثير نفوسهم ، وتحرك عواطفهم .. ومما يؤسف له أن هؤلاء القصاصين على تعالمهم وكذبهم على رسول الله r قد وجدوا آذانا تسمع لهم وتصدقهم وتدافع عنهم ، وكان هؤلاء – أي القصاصين – من جهلة العامة التي لا يهمها البحث والتقصي . « ([2])
ومن الشواهد على التماس العلم عند الأصاغر أن شعبة رحمه الله قد مر على
مسجد فيه جعفر بن الزبير وعمران بن حدير ، فوجد الزحام على جعفر بن الزبير ، وليس عند عمران أحد ، فتعجب شعبة ، وقال: » يا عجباً للناس ! اجتمعوا على أكذب الناس ، وتركوا أصدق الناس . » ([3])
وورد أن الشعبي أنكر على أحد القصاص في بلاد الشام ، فقامت عليه العامة تضربه ، ولم يدعه أتباع القاص حتى قال الشعبي برأي شيخهم نجاة بنفسه . ([4])
ولكي يتضح الأمر لنا أسوق قصة وقعت مع شيخ المفسرين قاطبة الإمام المجتهد محمد بن جرير الطبري : فقد ذكر السيوطي في كتابه تحذير الخواص من أكاذيب القصاص : » أن أحد هؤلاء القصاص جلس ببغداد ، فروى تفسير قوله تعالى : ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) ([5]) وزعم أن النبي r يجلس مع الله سبحانه وتعالى على عرشه ، فبلغ ذلك محمد بن جرير الطبري ، فغضب من ذلك ، وبالغ في إنكاره ، وكتب على باب داره » سبحان من ليس له أنيس ، ولا له على عرشه جليس « فثارت عليه عوام بغداد ، ورجموا بيته بالحجارة حتى استد بابه بالحجارة وعلت عليه . « ([6])
أقول : سبحان الله ! هذا هو عين التماس العلم عند الأصاغر ، ويزيد عليه تحقير الأكابر ، وهذا الطامة التي ابتلي بها الأوائل ، وما زلنا نعيش في نيرها بعدما اشتدت توقداً ، أذكر أمراً عاينته وهو أنه لفت انتباهي الإقبال الشديد على كتاب من الكتب التجارية الغالية الثمن في بلادي ، وعندما تصفحته وجدته محشواً كذباً على الله ورسوله ، والغريب أن أكثر النسخ قد نفدت لشدة الإقبال ، و أعيد تصويرها ، وعندما خرج كتيب صغير الحجم قليل الثمن غزير العلم ينبه الناس من هذه الأكاذيب التي غرق الناس في وحلها ، كان الناس في زهد من اقتنائه ، فسألت متعجباً صديقاً لي صاحب تجربة من أهل العلم عن ذلك فقال : الناس تحب من يخرجها من واقعها الأليم ، ويغرقها في بحر من الخيال والأوهام حتى لو علمت بأنه كاذب ، فإذا جاء من يخرجها من هذه الأوهام ، أو بعبارة أخرى يوقظها من أضغاث الأحلام ، استنفرت وفرت .
أقول : أليس ذلك شكل من أشكال التماس العلم عند الأصاغر ، وطبيعة الناس ونفسيتهم معززة لوجودهم ، ولتصدرهم أمراً ليسوا من أهله .
(_ ) الضابط في معرفة الأصاغر من غيرهم نلتمسه من هذا القول الرشيد للإمام مالك –رحمه الله - حيث قال : » لا يؤخذ العلم عن أربعة ، ويؤخذ مما سوى ذلك ، لا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ، ولا من سفيه معلن بالسفه ، وإن كان من أروى الناس ، ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتهمه في الكذب على رسول الله r ، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث . « [ انظر الخطيب : السنة قبل التدوين ( 237 ) ]